في حضرة لبنان
بعد أشهر من الغياب وسنوات من الاغتراب، لم أزُر لبنان. زرت لبنانات. وكل لبنان يبعد عن لبنان مسافات شاسعة القصر. لبنان الفقير ولبنان الآمن ولبنان المُنمّق ولبنان الأخضر ولبنان اليابس ولبنان قوس القزح، ولبنان الحرب الأهلية والبطاقة البنكية والأنترنت اليدوي والبدع السياسية، ولبنان الذي لا يزال يبكي زياد، ولبنان غدوات الجمعيات الخيرية، ولبنان الواقع المرير والمغترب الغريب، والمغترب الغائب دوماً، والمغترب الذي لم يغترب. ولبنان العزة، ولبنان الغد، ولبنان العشرة آلاف وأربعمائة ونيّف، مع أني لم أسمع به في هذا الموسم، ولبنان الصيف والكيف، ولبنان الحياة، ولبنان الموت، ولبنان غرفة الإنعاش وماء الوجه، ولبنان الأغنية ولبنان الفاكهة، ولبنان القنبلة اليدوية والمياه الجوفية وإبر التنحيف والعمليات التجميلية. لبنان الشعب العنيد، ومرتع الرسل والأديان والإيمان، ولبنان العيش الرغيد، ولبنان الراجع يتعمر عالعيد. عندما أسافر سأصعد على متن الطائرة عبر سلالم، أو أعبر جسراً متصلاً بحبال هواء، يوصلني إلى حيث المطر يقهر قساوة برد الشتاء في كل البلاد على حدّ سواء ويُحنن قلب حر الصيف على العباد ذات الأغلبية اللاأدرية، حيث تُنير الشمس الحقول الخضراء مسرحاً تتراقص عليه نظرات مستقلي القطار من كافة الأطياف والجنسيات على تعدد المهن والهوايات، من هناك كما من أي أرض نائية أخرى، ومن أي زمن آخر ولّت عليه الأزمان وأكل الدهر عليه وشرب وأخذ قيلولته ودخن سيجارته واستقل سيارته وذهب في حال سبيله، وأيضاً من البلاد الواطئة مملكة آل اورانيا، لطالما نظرتُ شرقاً وانحنيتُ جنوباً ولم أرَ سوى لبناناً واحداً. لغةً مشتركة، أرضاً واضحة المعالم إلى حدّ ما، فكرة مشتركة. بشكل أو بآخر، أو أقله فكرة عامة تقريبية. أما من حيث الآن أنا، لا أرى لبنان. لا أرى لبناني أنا أو لبنانك أنت، ومن المؤكّد والواضح وضوح الشمس في شهر آب أني لا أرى أياً مما تكلّم به جبران. أين هو لبنانه؟ لم أجد حتّى لبنانهم. هي 'قرطة' لبنانات 'مقسومين'. جغرافياً ربما، لكن الأهم ثقافياً واقتصادياً وطبقياً ضمن الشارع الواحد. كتجربة إنسانية. لبنانات سِرب في صحراء وكل سراب يحسب نفسه الواحة.
خلتُ أنّ ما تجمعه الصدمات النفسية والأزمات المالية وعجلة السير المرورية لا يُفرّقه إنسان. لكني أخطأت.
ربما الواقع لم يتغيّر، ربما الكتابة والأدب والشعر هم من تغيّروا، فباتت 'قطعة السما' لبنان شقفة أرض. الأرض هنا. لكني يا لبنان… حضرت، ولم نجدكم.

